الإستراحة

يمكن أن يحدث الكثير في محطّات الإستراحة على الطريق السريعة.
صحيح أنها مجرّد بناية بمساحة عاديّة جدّا تعادل مساحة أي قهوة شعبية بشارع صغير بمدينة....
صحيح أنها تبدو خالية، معزولة وراكدة.. يعني مجرّد محطّة إستراحة على طريق صحراوية سريعة..
قد تتوقّع أن لا شيء يمكن أن يحدث بهكذا مكان، يرتاده الناس للتبوّل أكثر مما يرتادونه للأكل أو شرب القهوة:
المروحة العملاقة بالركن توحي بالملل من شدّة الغبار المزدحم بين أجنحتها الثقيلة الطاولات الصفراء، المتسّخة ببقاع الدهان والقهوة والبصاق الممسوح على عجل، تشي بسنوات من الإهمال والركود..
الهواء ثقيل.
عيون "السرفور" نصف مغمظة، تتابع بكسل متؤهب مباراة الكرة بالتلفزيون.
الصبيّ يسحب أرجله خلف المسحبة، ليجمع أوساخ الأرضية القابض يعد ملاليم الأمس بتؤدة العابد..
الوقت يتثائب.....

لكن العمال هناك يعرفون أنه يمكن أن يحدث ما لا نتوقعه، يتسلحون بعصا ثقيلة تحت الكنتوار وسكين حادة مخفية بعناية تحت غطاء الطاولة التي تحمل الكاسة.

يضعون طاولة على جانب، مرتبة بعناية  وحولها كراسي من خشب لا من بلاستيك. فوق الطاولة مزهرية، ومنفظة سجائر  وحاملة محارم صدئة، لا توجد محارم، لكن الطاولة مستعدّة لإستقبال الشخصية المهمة التي يمكن أن تمر من هنا.....

حدث في سنة ما أن مرّ رئيس الدولة من هذه الطريق لأجل أن يدشّن طريقا قريبة وإحتاج أن يتبوّل، فمرّ بالمحطة وتبادل الحديث مع العمال هناك، ونقل التلفاز تلك الزيارة....

 بقيت تلك الحادثة محفورة في خيالات العمال، كم من "سرفور" أو صبيّ بمثل مهنتهم، يمكن لهم أن يقابلوا الرئيس وجها لوجه ويخبر عنهم التلفاز
محطتهم وحدها، على هذه الطريق الصحراوية الخالية من أي أثر للحياة، تتصيّد مفاجآة مذهلة من هذا النوع.

كل نجوم السينما، والشخصيات الهامة  ورجال الأعمال، يعبرون من هذه الطريق الصحراوية، والجميع بلا إستثناء يحتاج أن يتبوّل، ولهذا ففرضيات إستقبالهم جميعا أعلى بكثير من أي مقهى أو محطّة بشارع مكتظ بمدينة..

لأجل هذا إستعد العمال كما ينبغي وأعدّوا طاولة مرتبّة لأجل ما يمكن أن يحدث.

منذ سنة، مرّ رجل وامرأة بدى من هيئتهما أنهما عشيقان أو حديثا الزواج، كانا في غاية الإنسجام والوله، حتّى أن الصبي أطرق محاولا إخفاء ضحكاته وحيائه أمام الرجل وهو يلفّ عشيقته من خصرها ويطلب قهوة لعيونها..

في إنتظار القهوة، أخذت المرأة تتسكع بدلال في المحطة، بينما يستقر العمال النظرات إلى أفخاذها المكشوفة، وبلا أي سبب إنهمرت من بين رجليها دماء كثيفة، إنحنت متأوهة قبل أن تصرخ وتقع على الأرض.. هبّ إليها عشيقها مصدوما وصرخ طالبا المساعدة..
بقي العمال مذهولين من هول المشهد: "رجب"يبكي ويقبّل المرأة من فمها وسط بركة من الدماء.
أحدهم أشاح وجهه متمتما:
سترك يا الله..
الرجل صرخ فيهم بشكل هستيري، دون أن يتحرّك أحدهم أو يهب لمساعدته.. بعد ربع ساعة وصلت الإسعاف المتجوّلة، حمل المسعفون المريضة خلفها عشيقها متعثّرا، قبل أن يغادر نظر إلى العمال بحقد: ربي ينتقم منكم..
 لم يرد عليه أحد، كانوا تحت هول الصدمة...
في مساءات الصيف، حين يرحل آخر حريف ويشعلون النار جيلة، يتذكّرون مأساة الحبيبين بحسرة ويقول الصبيّ :

-"الحب حاجة صعيبة"، هل تذكرون شكل ذلك الرجل، حين ماتت إمرأته؟
-لا نعرف إن كانت إمرأته..
-لكنه بدى حزينا جدا..
-أعوذ بالله من هذه السيرة، "ربي يتوب علينا من هالخدمة أحنا شفنا الهوايل من وراها.."
ويطرق الإثنان في صمت.

يمكن أن يحدث الكثير في محطّات الإستراحة على الطريق السريعة، برغم الصمت الحاد للصحراء، وكتومة النجوم في السماء، وحشة الريح، سحب الغبار الذي تجلبه سيارة واحدة.. برغم كل ذلك، الجميع يمرون من هذا الطريق الصحراوي، والجميع يحتاج أن يتوقف  ويتبوّل..لأجل هذا عاش النادل، القابض  والصبيّ مراهنين أن يحدث ذلك، الكثير...

Ons Bn Essayed

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الخوف

نرفين

الدين على سجيتي