نرفين

كانت في عمر أمي، أو ربما أكبر قليلاً.
شيء في وجهها يوحي بإنتماءها لعائلة ميسرة.
ملابسها بسيطة ومحتشمة كما يليق بجدة...

 الإيشارب الحريري الذي تغطي به رأسها ويتوارى خلف قميصها يضاعف النعومة المتدفقة من ملامحها وإبتسامتها الطفولية....
غريب أن بعض النساء لا يكبرن، أم وجدة تبدو كبنوتة في الخامسة، تستدعي في أشد النفوس ضيقا وخشونة واجب التلطف.
بادرتني بإبتسامة تعادل قدرتي على الإبتسام لمدة شهر وقدمت نفسها بصوت يبعث في النفس الرغبة في العناق والبكاء:

- أنا إسمي نرفين شاعرة.
قالت إنها شاعرة بذات البديهية التي تنطق به إسمها "ن ر ف ي ن"
"ش ا ع ر ة".. الأمر بسيط وسهل..
قدمت نفسي بإسمي، معتذرة في باطني أن تخدشها طبقة صوتي
فأجابتني بإبتسامة أعلى من موج المحيطات كادت تلقى بي من كرسيَ   وإسترسلت في تقديم دواوينها، وأسمائهم وتاريخ ولاداتهم ودور النشر الحاضنة لهم..
كفضولية تقليدية سألتها عن أطفالها، فأخبرتني أن لها ثلاثة ونسيب وحفيدان

وإسترسلت تقص حكايتها بإبتسامة لا تفارق شفتيها، تجبرني على الإبتسام بتماسك، أن لا أعض على شفتي، أصرخ، أو أبكي.

كانت بنتا مدللة لعائلة متوسطة، أحبت زميلها في الجامعة وتزوجته دون أن ينغص فرحتها الرومانسية حدث أو سوء حظ.
كانت حالمة رومانسية  وبدى ذلك جليا في كل تفاصيل بيتها، ألوان الستائر التيركواز، السجاد الحريري المخملي، فازات الكريستال وورود التوليب..
كل ما في بيتها أنثوي بشكل مبالغ فيه حتى تخاله بيت باربي..
في البدء لم يهتم زوجها للأمر، ثم نكزته تعاليق أصدقائه وحرفائه.
ثم إنتبه صراحة أن شخصية زوجته الناعمة طاغية في كل ركن من أركان البيت وبدأ يحتج.
غيري ألوان الستائر....
 هذه الصالة  تبدو سخيفة ، غيريها بصالة من الجلد الرمادي أضيفي مكتبة للصالون.. لا أحب ورد التوليب…
 والزوجة تطيعه بهدوء  وإبتسامة أكبر من موج التسونامي...

تغير شكل البيت  وإحتفظت لنفسها بغرفة صغيرة على ذوقها، تستمع فيها بالهدوء مع ذاتها  وتدون خواطرها.. مصدقة أن ذلك هو الشعر.
أنجبت أول مرة ولدا ثم أنجبت توأما من البنات ولم يحدث ذلك في نفسها أثرا كبيرا....
 كانت تحب أطفالها  وتعتني بهم كما أحبت زوجها وإعتنت به
لكن أحست أن الغرفة الصغيرة تضيق أكثر حين تتشاركها مع طفل.
ثم أنها تحب الموسيقى الكلاسيكية.. وكان صوت الأطفال منغصا لهكذا جو..
لم تبدي ضيقها أو تعبر عنه، بحثت عن فرص تغادر فيها البيت لتختلي بنفسها في الحديقة العمومية وتقف مطولا متأملة جمال النهر.

لكن زوجها ضاق بشرودها وخروجها من البيت...
 ثم ضاق بغرفتها وإبتسامتها الغامرة وطلب منها أن تتوقف عن كونها بلهاء وتفيق لنفسها وأطفالها.. شكاها لأبيها دون أن يحدد مما يشكو.

في البدء كان عنيدا، ثم تمكن به هوس عجيب فأصبح يشغل يومها بطلبات سخيفة حتى لا تخلو لحظة إلى نفسها.. ثم أصبح يصاب بنوبات غضب رهيبة كلما صادفها تخربش على ورقة..
حين مد يده وصفعها، سقطت إبتسامتها وتناثرت على الأرض..
فاضت الموجة العالية لتغرق الغرفة الصغيرة، البيت والأطفال..

في جلسة صلح بينها وبينه، إشترطت أن يكون لها غرفتها الخاصة وأن لا يتدخل بكتابتها.
 جن جنونه. كأنها تطلب أن يسمح لها بالمحافظة على عشيقها..
ساومها بأطفالها، فقبلت التنازل عنهم بسلاسة.
قبل أن يفيض غضبه، قاده والدها الى الباب وقرر أن إبنته ستكون أفضل بدونه وبدون أطفال.
عادت إلى غرفة صباها ببيت والدها بين الخامسة والثلاثين وإستعادت ستائرها التي تحب لونها  وغيرت السجاد رغم قلة مواردها وإشترت لنفسها مكتبا.. وإنغمست في مناجاة نفسها ونداء أرواح تستشعرها ولم يشهد على وجودها أحد…

 ومرت السنين طيبة لطيفة، لولا شوق ضرفي حزين لاولادها وتجريح ملح من زوجة أخيها.. يصيبها أحيانا فينغص إبتسامتها.

بعد عشرة سنوات، جاءت إبنتها برجاء... أن تعود لزوجها فلا تخجل بعائلة مفككة أمام أهل خطيبها.
جاء طالبا الصلح وقد أعيته السنين وإمتص عناده الوقت.
وكان لها بند في العقد: أن يبطل الزواج لو خطى يوما غرفتها أو منعها عن المنتديات والشعر.
كانت بعمر أمي أو أكبر، بإبتسامة ودلال طفل..
وغادرتني لتلتحق بقطر ليلي تشق المحافظات… سعيدة بلقاء حبيبها الشعر.

Ons Bn Essayed

تعليقات

  1. رائعة جدآ
    اسلوبك بالسرد نقي ك خطوات تعرف الطريق جيدآ.

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

إرتجاج في المخ

لأجل أمي

الخطيئة